الأقاليم بين النص الدستوري والتطبيق العملي
د. سعد عزت السعدي
يُعتبر النظام الاتحادي (الفيدرالي) أحد الخيارات الدستورية، التي اعتمدها العراق بعد عام 2003 لمعالجة إشكاليات إدارة الدولة المتعددة القوميات والمذاهب، وتحقيق قدر من اللامركزية السياسية والإدارية. وقد كرس دستور جمهورية العراق لسنة 2005 مبدأ الفيدرالية، وأجاز تكوين الأقاليم، إلا أن التطبيق العملي أفرز تجربة واحدة مستقرة نسبياً تمثلت في إقليم كردستان، مقابل تعثر وفشل جميع المحاولات الأخرى لتأسيس أقاليم في بقية المحافظات. وتتناول هذه المقالة الإطار الدستوري والقانوني للأقاليم في العراق، مع تحليل أسباب نجاح تجربة إقليم كردستان، وأسباب إخفاق التجارب الأخرى. ويعتمد الأساس الدستوري والقانوني للأقاليم على نصّ دستور الجمهورية لسنة 2005 في المادة (1) على أن العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، وأكد في المواد (116–121) على أن النظام الاتحادي يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية. كما أتاح الدستور تشكيل الأقاليم بطريقتين:
1 - طلب يُقدم من ثلث أعضاء مجالس المحافظات المعنية.
2 - طلب يُقدم من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين إقليم.
وصدر قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم رقم (13) لسنة 2008 لتنظيم الخطوات العملية لتأسيس الأقاليم، بدءاً من تقديم الطلب وانتهاءً بإجراء الاستفتاء الشعبي.
وبهذا الشأن نجد ان تجربة إقليم كردستان لها جذور وخصوصية حيث تُعدّ تجربة إقليم كردستان حالة خاصة في السياق العراقي، إذ سبقت الإطار الدستوري لعام 2005. فقد نشأ الإقليم فعلياً بعد عام 1991 إثر فرض منطقة الحظر الجوي، ما أتاح للإدارة الكردية بناء مؤسسات سياسية وأمنية واقتصادية شبه مستقلة عن الحكومة المركزية.
ومن عوامل النجاح النسبي، يمكن القول الشرعية التاريخية والسياسية: تمتعت التجربة الكردية بتراكم سياسي ونضالي طويل، منحها قبولاً داخلياً واسعاً، اضافة إلى الوحدة المجتمعية النسبية: رغم الخلافات الحزبية، فإن الهوية القومية الكردية شكلت عاملاً موحداً ومؤسسات قائمة قبل الدستور: وجود برلمان وحكومة وقوات أمن محلية (البيشمركة) أسهم في استقرار الإقليم وكذلك الدعم الدولي والإقليمي: لعب المجتمع الدولي دوراً مهماً في حماية الإقليم وتثبيت وضعه.
ولا شك في ان تجربة الاقليم تحمل معها بعض الإشكاليات القائمة فبالرغم من النجاح النسبي، الا انها لا تخلو من إشكالات دستورية وسياسية، أبرزها النزاعات مع الحكومة الاتحادية حول النفط والغاز، والموازنة، و(المناطق المتنازع عليها)، فضلاً عن قضايا تتعلق بالحكم الرشيد وتداول السلطة.
ومن جانب آخر نجد فشل محاولات إنشاء أقاليم أخرى فمنذ إقرار الدستور، طُرحت عدة مبادرات لتأسيس أقاليم في محافظات مثل البصرة والأنبار وصلاح الدين وديالى، إلا أنها لم تكتمل أو أُجهضت في مراحلها الأولى.
•الأسباب القانونية والسياسية للفشل منها المعارضة السياسية: واجهت مشاريع الأقاليم رفضاً من قوى سياسية مركزية تخوفت من تفكيك الدولة أو فقدان النفوذ وغياب الإرادة الشعبية الموحدة: لم تحظَ هذه المشاريع بإجماع اجتماعي واضح، بل انقسمت المجتمعات المحلية حولها، فضلا عن تسييس مفهوم الإقليم: ارتبطت الدعوات إلى الأقاليم أحياناً بأجندات طائفية أو ظرفية، ما أفقدها المصداقية الوطنية.
•الأسباب الإدارية والاقتصادية كضعف المؤسسات المحلية: افتقار المحافظات إلى بنى إدارية قادرة على إدارة إقليم مستقل نسبياً، وكذلك الاعتماد المالي على المركز: غياب الموارد المستقلة جعل فكرة الإقليم عبئاً اقتصادياً محتملاً.
•العامل الأمني فقد شهدت العديد من المحافظات، التي طُرحت فيها فكرة الأقاليم أوضاعاً أمنية غير مستقرة، ما جعل الأولوية تنصرف إلى الأمن والخدمات الأساسية بدلاً من التغيير الهيكلي في نظام الدولة.
وفي مقارنة بين إقليم كردستان وبقية المحافظات تُظهر المقارنة أن نجاح إقليم كردستان لم يكن نتيجة النص الدستوري وحده، بل ثمرة ظروف تاريخية وسياسية وأمنية استثنائية. في المقابل، افتقرت المحافظات الأخرى إلى هذه الشروط، فبقي النص الدستوري معطلاً عملياً في ما يخص الأقاليم الجديدة.
واخيراً يُقرّ الدستور العراقي بمبدأ الفيدرالية وحق تكوين الأقاليم، إلا أن التطبيق كشف فجوة واسعة بين النص والواقع. فقد نجحت تجربة إقليم كردستان بوصفها حالة خاصة سبقت الدستور، في حين فشلت التجارب الأخرى، بسبب غياب التوافق السياسي والاجتماعي وضعف المؤسسات والمخاوف من التفكك. وعليه، فإن أي توجه مستقبلي نحو إنشاء أقاليم جديدة يتطلب أولاً بناء دولة مؤسسات قوية، وتعزيز اللامركزية الإدارية، وترسيخ الثقة بين المركز والمحافظات، بعيداً عن الحسابات الطائفية والسياسية الضيقة.
