الصياد آخر الأخبار
مباشر
wb_sunny

خبر عاجل

ما وراء الرعب.. الشبكات الخفيَّة في قضية جيفري ابستين

ما وراء الرعب.. الشبكات الخفيَّة في قضية جيفري ابستين


 محمد علي الحيدري

عادةً ما تُختزل قضية جيفري ابستين في وسائل الإعلام كقصة فاحش ثري مارس الاعتداء على القاصرات. لكن النظرة التحليلية الأعمق تكشف أنها ليست مجرد جريمة فردية شنيعة، بل نافذة مروعة على نظام أكثر ظلاماً: نظام من الامتياز والشبكات الخفية والفساد البنيوي الذي يسمح لرأس المال والنفوذ بتعطيل العدالة ذاتها. تحولت قصة ابستين من فضيحة إجرامية إلى قضية سياسية استراتيجية بامتياز، تكشف عن الفجوات الهائلة في هياكل المساءلة، وعن كيفية عمل السلطة الحقيقية في دهاليز النخب العالمية.

الوجه الأكثر خطورة في القضية ليس فقط في فداحة الجرائم، بل في “قائمة أسماء” ابستين الطويلة التي تحوم حولها الشكوك. إن وجود سياسيين بارزين وأمراء ورؤساء دول سابقين ومليارديرات وأكاديميين مرموقين وفنانين عالميين في دفتر معارفه، يطرح أسئلة استراتيجية محرجة: إلى أي مدى تتشابك شبكات النفوذ العالمية؟ وكيف يمكن لعلاقات المصالح أن تشكل حماية غير مرئية حتى لأكثر الجرائم فظاعة؟ إن الصمت الغالب والتقاضي البطيء والتحقيقات التي تبدو وكأنها تتجنب تعقب كل الخيوط، ليست مجرد صدفة إجرائية. إنها تعكس قدرة الأنظمة على حماية نفسها، حيث يصبح التجاهل والتعتيم أدوات لإدارة الأزمات التي تهدد الطبقة الحاكمة بمجملها.

التحول الدراماتيكي من “محاكمة” إلى “انتحار” إبستين في زنزانته تحت الحراسة المشددة في أغسطس 2019، لم يضع حداً للفضيحة، بل فجّر أزمة ثقة كبرى في المؤسسات. كيف لشخص يعد من أكثر المساجين خطورة ورصداً أن يموت في مثل هذه الظروف؟ هذا السؤال البسيط يحمل في طياته إشارة إلى احتمالات مريعة: إما فشل ذريع وغير مقبول لمنظومة أمنية من أعقد المنظومات في العالم، أو تدخل خارجي لمحاولة إسكات صوت إلى الأبد. في كلتا الحالتين، كانت النتيجة إضعافاً جوهرياً لشرعية مؤسسات الدولة القضائية والأمنية في نظر الرأي العام العالمي، وتغذية لنظريات المؤامرة التي تجد أرضاً خصبة في مناخ من الشك العميق.

على المستوى الاستراتيجي، حوّلت القضية “جزيرة الموت” من مكان جغرافي إلى رمز. رمز لملاذات الفساد والانحدار الأخلاقي حيث لا يطول القانون أصحاب النفوذ. هذا الرمزية تهدد سمعة المؤسسات المالية العالمية (مثل بنك ج.بي. مورجان تشيس الذي تورط في تحويلات إبستين)، وتلقي بظلالها على هيبة المؤسسات الأكاديمية المرموقة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT التي قبلت تبرعات منه. القضية أصبحت سلاحاً في الحرب السياسية والثقافية الدائرة، حيث يتم استدعاؤها لتشويه الخصوم، أو للتدليل على فساد “النخبة العالمية”، أو لدعم خطابات شعبوية معادية للمؤسسات القائمة.

الدرس الأكثر إثارة للقلق الذي تقدمه قضية إبستين هو إظهار “مرونة النظام” وقدرته على امتصاص الصدمات. فبعد سنوات من الجدل، لم تشهد أية تغييرات بنيوية جذرية في آليات الرقابة على مراكز القوى المالية، أو في شفافية العلاقات بين السياسة ورأس المال، أو في حماية الضحايا من النخب المؤثرة. يبدو أن ثمة “خطاً أحمر” في الملاحقة. القضية تتحرك حيث تسمح الشبكات، وتتوقف حيث تهدد مصالح مترابطة أكبر.

ختاماً، تكشف قضية إبستين أن أخطر الجرائم قد لا تكون تلك التي ترتكب في الظلام، بل تلك التي ترتكب في وضح النهار وتحميها شبكة من الصمت والإفلات. لقد تجاوزت القضية حدود القانون الجنائي لتصبح اختباراً صارخاً لنزاهة النظام الدولي للنخب وقدرته على محاسبة نفسه. إن مصداقية المؤسسات السياسية والقضائية والمالية العالمية على المحك. فإما أن تؤدي إلى محاسبة شاملة تصل إلى كل من تورط أو ساعد أو تغاضى، مما قد يفضي إلى إصلاحات حقيقية، أو ستثبت أن هناك طبقة فوق القانون، وهو إقرار بالفساد البنيوي سيهز ثقة الجمهور بالأنظمة الحاكمة لسنوات قادمة. في عصر الشفافية المزعوم، تذكرنا قضية إبستين بأن أقوى الجدران لا تزال تلك المبينة من الامتياز والصلات غير المرئية.

Tags

المتابعة عبر البريد

اشترك في القائمة البريدية الخاصة بنا للتوصل بكل الاخبار الحصرية