المعارضة بالضحك
أ.د عامر حسن فياض
اذا كان تداول السلطة السياسية على يد افراد وقوى من داخلها، يمثل الوجه العملي الايجابي لتغيير السلطة في مصر الفرعونية القديمة، فإن هناك وجها عمليا آخر له طابعه السياسي، كان عامة الشعب هم اصحاب الدور الاساسي فيه.
لقد كان مبعث الوجه العملي السلبي لمعارضة الشعب للسلطة في مصر القديمة خوف المصريين التاريخي من سلطتهم، وحذرهم اللامتناهي منها، لأنهم أقدم من خضع في التاريخ الإنساني لسلطة مركزية فردية مطلقة ومقدسة، لا مرد لإرادتها ولا معارض لرغبتها.
وتمثل سخرية المصريين من السلطة الحاكمة واستهزائهم بها وسيلتهم للتعبير عن معارضتهم لها وموقفهم السلبي منها، وهي وسيلة تبدو متجذرة تاريخياً في الروح المصرية ومنطلقها الحضاري الاجتماعي باعتقاد المصريين القدماء أن الضحك هو الذي خلق العالم، فحين أراد الإله الأكبر خلق العالم، أطلق ضحكة قوية، فخلق أرجاء العالم السبع، وبضحكة أخرى خلق النور وبالثالثة خلق الماء، وهكذا حتى خلق الروح بضحكته السابعة.
فالضحك اذن، وفقاً لهذا الاعتقاد هو فعل خلق ايجابي، أي أنه قادر على الفعل، فلعل المصريين القدماء اعتقدوا أن سخريتهم من الحاكم وضحكهم عليه، يمكن أن يكون له مفعول الخلق نفسه، الذي كان لضحكات الاله، فيخلعونه بسخريتهم، ويغيرونه ويتخلصون من شره بالضحك منه وعليه، فعارضوا السلطة بالتشهير الخفي الساخر والنكتة المبطنة ذات المضمون السياسي، واتقوا شرها وتجنبوا أذاها في الوقت نفسه.
وإذا كان المصريون القدماء قد ترددوا في تسجيل سخريتهم من فراعنتهم، الذين كانوا بالنسبة لهم ملوكاً والهة مقدسين في آن واحد. فإنهم تجاوزوا ذلك التردد في معارضتهم لحكامهم الاجانب، الذين سخروا منهم، كلما اتيحت لهم فرصة لذلك .
وقد لاحظ الرومان الاثر السلبي لسخرية المصريين من سلطتهم ومؤسساتهم، فمنعوا المحامين المصريين من دخول محاكم الإسكندرية لسخريتهم من القضاء الروماني.
وضمت البرديات المصرية القديمة بعض الرسوم الساخرة المنطوية على نقد للاوضاع السياسية والاجتماعية، حيث اظهرت تلك الرسوم، الحيوانات وهي تتصرف نيابة عن البشر، فصورة الفئران وهي تهاجم قلعة القطط، ترميز لغزو الهكسوس (الفئران) لمصر (القطط) فالقط حيوان مصري مقدس وأحد رموز آلهتها وفراعنتها. كما عبرت رسوم أخرى عن فساد الاوضاع عندما صورت الاشياء معكوسة كصورة القط وهو يرعى قطيع الإوز والذئب يحرس الأغنام والمعنى الساخر والمقلوب واضح في هذه الرسوم.
وبذلك استبدل العقل والسلوك المصريين، المعارضة العملية المباشرة للسلطة، والنشاط الفعلي الهادف إلى تغييرها، وكل تفكير صريح بهذا الخصوص، بسلوك معارض غير مباشر، كان له وجهان ايجابي وسلبي، بما يتفق والحاجة لأحداث التغيير السياسي والمساهمة فيه من جهة، وتجنب أذى السلطة وعقابها من جهة ثانية.
